عزيزتي هبة،،
مساء الخير، عودة
للكتابة إليكِ مرةً أخرى، كان الانقطاع واجباً لتفاصيل يعرفها كلينا، والعودة
ضرورة لأسباب تتعلق بما يلفنا، تكرار أن الحياة أصبحت سيئة والواقع بدأ يخنقنا بات
مملاً، لكنّه حقيقة، بالأمس حين قرأت أن ماهينور المصري قُبض عليها من داخل جاليري
"تهادوا" تذكرت أن المرة الأولى التي طبقنا فيها طقس الهدايا كانت في
نفس المكان. أصبح الموضوع أشبه بتشويه لكل ما يحمل طابع الجمال حتى لو كانت في
الذكرى، هل شاخت أرواحنا قبل أن تهرم أجسادنا؟
كنت أتحدث مع صديقي
منذ أيام عن المنظرين في الصحافة، وكيف يستغربون سأمنا من تغطية الأحداث، أو عدم
تحملنا للعمل كعبيد في المهنة، قال لي إن ما تعرضنا له في أكثر من ثلاث سنوات،
تعرض له جيل في أكثر من ثلاثين سنة، كنّا دائماً نحسد الكُتاب على تجاربهم، وكيف
تفيدهم في الحبر، لكنني تذكرّت شعر محمود عزّت الذي يقول فيه "نجينا م
التجربة، التجربة مرعبة". لم يعد لدينا ذلك الشغف للمشاركة في مظاهرة، أو
طاقة الاستمرار في جدال، نفسنا اتقطع قبل أن نبدأ السباق، هل يغلب عليّ التشاؤم هذه
المرة، ربما يغلب عليّ الرغبة في التخلص منه، في استعادة روحينا، أو بالأحرى
انتشالها من السياق، لابد لنا أن نفارق صخب النقاشات وإزعاج الزحام ولزوجة البشر،
كيف نفعل ذلك؟.. قلتي لي بالأمس أنّك تعيشين حالة من نوستاليجا الطفولة، الرغبة في
أن تعودين تلك الفتاة التي تعمل لها أمها "زعرورتين" في شعرها القصير،
وترتدي فستان أحمر قصير، سألتك كيف نتزوّج لو عدناً أطفالاً، قلتي "نحب بعض
وإحنا أطفال، ويبقى آخرنا بوسة، ونفضل صغيرين". تعلمين؟.. أنتِ بالفعل طفلة، تضحكين
بين كل جملة وجملة ضحكة، تعبسين حين تطلبين شيتوس بالجبنة أو شنبو بالجبنة الشقية،
ولا يكونوا موجودين، تفرحين بحذاء جديد فيه تطريز مبهرج، وتنتظري إطراء بسيط على
كوب شاي من صنع يديكِ، هل تذكرين هاجسك الأكبر بالصراع بين الطفل الرابض بداخلك،
ونظيره العجوز؟.. سيموت العجوز حين تنتصرين للتفاصيل، سيعيش الطفل، ستعود لديكِ
القدرة على الدهشة، ومحو ما يسوء حياتنا.
عزيزتي هبة،،
لابد أن تعودين
للكتابة، قلتي أنّك خصصتي يوماً أسبوعياً للتدوين، لا تحتاج الكتابة ليوماً في
الأسبوع، تحتاج لساعة كل يوم، لطالما أخبرتكِ أنني واقع في غرام حروفك، تمتلكين
إحساس وروح في الكتابة يمس شغاف القلب كمن يغني صوفي ويتوحد مع خالقه، صحيح أن
الهم يحاصرنا ويدفع بالأفكار للهرب، وحين ينزوي الوطن بعيداً، تصبح الكتابة عسيرة
على الإمساك بتلابيبها، لكن إدوارد سعيد يقول "الإنسان الذي لم يعد له وطن، يتخذ
من الكتابة وطنا يقيم فيه". لابد أن تستعيدي وطنك الخاص، تكتبين عما يثير
حنقك، نفثي عن كل شيء بالكتابة كما كنتِ تفعلين سابقاً، شغلّي موسيقى هادئة وقللي
الإضاءة، أو أن الكهرباء ستقطع من تلقاء نفسها، ومرّني نفسك على العودة من جديد
لغزارة الكتابة ويسر التدوين، بالمناسبة، ستؤثر الكتابة على بقاء الطفل على قيد
الحياة.
عزيزتي هبة،،
أنا أحب
الإسكندرية، منذ الصغر كانت هي المدينة التي نخلو إليها كل صيف، لنتخلص من أعباء
السنة الكئيبة، مدينة تشبه روحها طقوس الاعتراف، فيها التطهر، والتخلص من القيود،
التصرف بحرية، والتحرك بلا وازع إلا الرغبة في بهجة والحد من ضيق، لم تضار بلد عقب
الثورة إلا تلك المدينة، كنت قد عملت وزميلتي وأستاذتي سماح على تحقيق صحفي في هذه
المدينة اجتماعياً، وتبيّن لنا كيف تحولّت من أقصى الثورة إلى أقصى الكنبة، مع
مرور بمحطة الذقن والنقاب كضرورة.
اقرأ الآن كتاب
"وجوه سكندرية" لعلاء خالد، لم اقرأ كتاب فيه هذا الكم من الشجن من قبل،
هل سنصل لهذه المرحلة بعد عشرين سنة مثلاً، أن نكتب عن الأماكن التي احتوت وجودنا
وصارت سراباً، أقسى ما يعانيه فرد أن يندثر المكان، يصبح تراباً، يحكي علاء خالد
عن مقاهي وبارات وشوارع كانت تنبض بالحياة ثم صارت تنبض بالحداثة، هل تقتل الحداثة
الروح، ما معنى الحداثة أصلاً، ربما الحداثة هي ألا يهتم الناس بعبق العمارة
وشكلها الهندسي البديع، بل يسألون عن إمكانية فتح جراج أو هدمها وبني مول تجاري
يجلب المزيد من النقود. حين يضيع المكان، تذهب معه الذكريات، يجتث جزء من الوعي في
المخ ويذهب سدى، تماماً كفرمتة جزء من كارت الميموري.
هل العالم أصبح
بائس لهذا الحد؟
فتحت الصورة التي
كانت لنا في محطة الرمل، الترام أصبح أنقاض، لم نسأل عن السبب، ربما لوعي كلينا
بأن كل شيء اتسم بالقبح، فلماذا لن تلوث تلك البقعة، كل ما شغلنا أن نضحك، ونمسك
بالموبايل ونلتقط الصورة.. تذكرت الصورة التي كانت لرجل وفتاة يقبلون بعضهما
بحرارة بينما العالم يحترق في الخلفية، شعرت أننا نمثلهما بدقة، الفارق فقط أنني
حين أشبك يدي بيديكِ ينظر الناس إلينا شذراً وكأننا عرايا، ولا يلقون بالاً لمن لا
مؤاخذة يا هبة "يطرطر" في الشارع أو يتحرش بفتاة أو حتى يعامل زوجته
بجفاء.
"الحل
رومانسي، بس مش غلط".